ذلك هو السؤال الذي وجهه إليّ أحدهم قائلاً:
لماذا انتابك الخشوع والبكاء وأنت تصلّي صلاة الجنازة على فلان من الناس؟
لو صدر هذا السؤال من ملحد مغرق في إلحاده لم يسمع باسم الصلاة ولا بشيء من معانيها وآدابها، إذن لتبدد الاستغراب من خلال معذرة السائل.. ولكن السائل مسلم يعدّ نفسه من الناس الغيارى على الإسلام!!..
أليس هذا كمن يستنكر سائلاً: لماذا تصلي متوضئاً، أو لماذا تصلي مستقبلاً القبلة، أو لماذا تقرأ القرآن بترتيل؟!..
بل أليس هذا السؤال الاستنكاري موجهاً في حقيقته إلى الله الذي وصف المفلحين من المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} [المؤمنون: 23/2]؟!..
وأيَّ صلاة يستنكر السائل خشوعي وبكائي فيها؟..صلاة الجنازة، تلك التي لابدّ أن تذكرك بنوبتك الآتية، يوم تكون أنت الممتدّ داخل هذا الصندوق، تنتظر من يشفعون لك من إخوانك بين يدي قدومك على الله!..
وأنا، كأي مسلم صادق مع الله في إسلامه، قلّما صليت على جنازة، إلا وخيّل إليّ أنني أنا الممتد في أكفاني داخل الصندوق الذي أمامي، وانتابتني من ذلك حال لا يعلمها إلا الله، سواء عرفت الميت أو لم أعرفه.
فكيف إذا كان هذا الميت من ذوي السلطة والمكانة الباسقة في حياته، يأمر فيطاع، وينهى ويحذّر فينقاد له الجميع، وأنظر إليه، فإذا هو اليوم مجرد من سابق أبهته وسلطانه، عارٍ من كل قدراته، قد ارتحل إلى الله ذليلاً صاغراً مجرداً إلا من أكفان عبوديته للإله القائل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم: 19/93-94].
أتملك أن يطوف بشعورك هذا كله، وأنت في موقف الصلاة عليه والدعاء له، ثم لا ينتابك حال من البكاء والخشوع؟ إذن فأنت بحق ممن قال الله عنهم {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:2/74]
فكيف إن كنت فوق هذا تستنكر حال المتخشعين، وتضيق ذرعاً بحال المتبتلين ممن عافاهم الله من محنتك وبلائك؟!..
قل لي: أفيمكن أن يكون مثل هذا المستنكر من ((المؤمنين المفلحين)) متحدياً الشرط الذي وصفهم الله به فضلاً عن أن يكون من الدعاة والمرشدين؟!.
.